جارى تحميل الموقع
26 الجمعة , أبريل, 2024
البوابة الالكترونية محافظة القاهرة

  قصر الزعفران

 

خطوات ثابتة، ونظرات ثاقبة، وشعور غريب، وروائح ذكية، بمجرد أن تطأ أول قدم، في أحياء منطقة العباسية، يسري في الجسد هذا الشعور، حيث ينتابنا إحساس العودة إلى أجواء القرن التاسع عشر الميلادي، فكل نظرة على مبنى أو قصر قديم، يبدأ الذهن في تصور الأحداث التي وقعت داخل تلك البيوت والقصور الموجودة في الأحياء القديمة، والتي عادة نعجب لحالها وما آلت إليه ونتخيل أيام عزها ومجدها تارة، وما كانت عليه تلك الأمة من رقي وحس فني رفيع تارة أخرى، واليوم نروي قصة قصر جديد من قصور أسرة محمد علي التي تميزت بهم القاهرة الخديوية، أنه "قصر الــزعـفـران".

  

القــصر

بناه الخديوي إسماعيل عام 1864م على أنقاض قصر الحصوه في العباسية، الذي بناه "محمد علي باشا"، وقد بُنى القصر على غرار قصر "فرساي" بفرنسا الذي قضى فيه الخديوي إسماعيل فترة تعليمه، وقد طلب الخديوي نقش الأحرف الأولى من اسمه وتاجه الخاص على بوابة القصر ومداخل القاعات والغرف، وذلك ليجمع بين الطراز القوطي والباروك المستعملان في قصور القرن التاسع عشر الميلادي، للقصر أربع واجهات معشقة، بنوافذ وشرفات بعقود نصف دائرية، وزخارف جصية بهيئة فروع نباتية وأكاليل زهور غاية في البساطة والرقة، يتخللها تصاميم فنون النحاس والذهب والزجاج الملون، فضلا عن أسقفه الملونة بألوان السماء.

  

ينفرد القصر من الداخل بمجموعة من العناصر الزخرفية النادرة، فضلاً عن معماره الذي لا يوجد له مثيل، ويتكون القصر من ثلاثة طوابق رئيسية، حيث يضم الطابق الأول مجموعة من الأعمدة ذات الطراز اليوناني الروماني من الرخام الأخضر والأصفر بتيجان مذهبة ويذكر أيضاً إن الطابق الأول كان مخصصا للاستقبال حيث يضم القاعة الرئيسية إلى اليسار من باب الدخول وإلى جوارها قاعتان كبيرتان أخيرتان، وتقع حجرة المائدة إلى اليمين وهي تسع نحو 49 شخص.

  

يضم الطابق الثاني للقصر ثماني غرف للنوم،  كل غرفة بها صالون وحمام كبير، مصنوع من الرخام، وحوائط الحجرات مزينة بأشكال الورد والزهور الملونة، إضافة إلى الأشياء المذهبة بالذهب الفرنسي، وتظهر القاعة الرئيسية من جهة اليسار عند الدخول من الباب المصنوع من الزجاج المعشق، وإلى جوارها قاعتان للاستقبال، تصل إليه من خلال سلم البهو الكبير المصنوع من النحاس والمغطى بطبقة مذهبة، وهو سلم ذو طرفين يرتفع بمستوى طابقي القصر، والذي يكاد يكون السلم الوحيد في مصر الذي يضم هذه الكمية من النحاس، إلى جانب طابق تحت الأرض، يضم المطابخ وحجرات الخدم.

  

أهداه لوالدته

اعتلت صحة السيدة "خوشيار هانم" والدة الخديوي اسماعيل في عام 1872م ونصحها الأطباء بالعيش في مكان ذو هواء نقى وجاف، وهو ما كان يتمتع به موقع قصر الزعفران في صحراء العباسية، حيث كانت مساحة حدائق القصر 100 فدان زرعت به مساحات شاسعة من نبات الزعفران وهو سبب تسميه القصر لأن رائحة النبات كانت تفوح في أنحاء المنطقة.

  

الأحداث التاريخية للقصر

عقب هزيمة أحمد عرابي في معركة التل الكبير عام 1882م، واحتلال الإنجليز مصر، طمعوا في القصر ورغبوا في الإقامة فيه، لذا طلب الخديوي توفيق من جدته "خوشيار" هانم إخلاء القصر لإقامة الضباط الإنجليز الذين استخدموه أسوء استخدام لمدة 5 سنوات حتى تركوا القصر عام 1887م، وفي عهد الملك فؤاد الأول الذي تولي حكم مصر عام 1917م، قررت الحكومة ترميم القصر ترميماً كاملاً، وتأثيثه بأثاث فاخر حتى أصبح دارا رسمية للضيافة، ينزل بها من يفد على مصر من الملوك والأمراء واستخدم بالفعل لهذا الغرض وشهد العديد والكثير من المآدب والاجتماعات والحفلات. إلى أن أصدر الملك فؤاد أمراً عام 1932م بإنشاء مدرسة ثانوية في القصر عرفت باسم مدرسة "فؤاد الأول" فقد كان التعليم يُعد من أهم أولوياته واهتماماته، وقد حضر الملك فؤاد بنفسه افتتاح الدراسة بهذه المدرسة. وبهذه المناسبة أنشد شاعر النيل حافظ إبراهيم قصيدة وصف بها قصر الزعفران الذي يثير شغف وفضول كل من يراه.

 

معاهدة 1936م:

قصر الزعفران لم يكن مجرد واحد من القصور الفاخرة التي بنتها أسرة محمد علي في مختلف أنحاء القاهرة في القرنين الماضيين، فقد شهد القصر العديد من الأحداث التاريخية الساخنة التي مرت على مصر خلال تلك الفترة، مثل دخول الإنجليز إلى البلاد، وتوقيع معاهدة عام 1936 الشهيرة بحضور زعيم الأمة المصرية مصطفى النحاس باشا، عندما تفاوض مع المندوب السامي البريطاني "مايلز مبسون" لورد كيلرن حيث تم التوقيع بالأحرف الأولى لأسمائهم ، وما زالت المنضدة التي تم توقيع تلك المعاهدة عليها موجودة في مكانها بصالون القاعة الرئيسية وحولها طاقم من الكراسي المذهبة، وتعرف معاهدة 1936 في المراجع والوثائق الإنجليزية إلى اليوم باسم "معاهدة الزعفران" نسبة إلى القصر.

 

القصر عام 1952

وفي عام 1952م نقلت مدرسة فؤاد الأول إلى المبنى المخصص لها بحي العباسية وتم تخصيص قصر الزعفران ليكون مقرا لجامعة إبراهيم باشا سابقا "جامعة "عين شمس" حاليا، عند إنشائها لتشغل كلية الحقوق الطابق الأول من القصر بينما شغلت إدارة الجامعة الطابقين الثاني والثالث، ثم أنشئت كلية العلوم وتبعها مباني الكليات الأخرى الحقوق والآداب وملحق إدارة الجامعة وغيرها من المباني الجامعية وذلك في المساحة المحيطة بالقصر من كل الجهات، وبذلك أصبح القصر تشغله حاليا إدارة الجامعة فقط وقد ظل محتفظا برونقه التاريخي وبطرازه المعماري الفريد والمتميز.

 

كما تم تسجيل قصر الزعفران ضمن الآثار الإسلامية عام 1985م، باعتباره أثراً تاريخياً شهد وقائع تاريخ مصر الحديث والمعاصر وقد اهتمت جامعة عين شمس بترميم هذا الأثر العظيم بالتعاون مع هيئة الآثار المصرية وبدأت عملية الترميم والصيانة في عام 1994م مع مراعاة احتفاظ القصر بشخصيته المعمارية والأثرية والفنية وهكذا تحول قصر الزعفران من أحد قصور أسرة محمد على باشا إلى منارة للعلم والمعرفة، ولكن للأسف فقد ساءت حالة القصر وتقرر ترميمه مرة أخرى عام 2010م.